ينار محمد:
ثلاثة انماط من النشاط النسوي
ينار محمد
خلال فعاليات الاسبوعين الماضيين ضمن حملة الـ 16 يوم لانهاء العنف ضد المرة، اتضح وجود نوعين من النشاط النسوي ضمن المنظمات النسوية الفاعلة على الارض في العراق يُضاف اليها نمط ثالث يحاول الارتباط بأوضاع النضال النسوي عن طريق الكتابات والنقد النظري والتي قد تكون ايجابية احيانا ولكن في معظمها سلبية. ولست اقصد هنا الانماط من النشاط النسوي حسب الانتماءات السياسية، اي المنظمات النسوية اليسارية واليمينية والليبراليةـ ولا اقصد ايضا التقسيم الاكاديمي الذي يعتمد تاريخ الحركة النسوية الامريكية حسب راديكاليتها او انتمائها الى تيار اشتراكي او تصنيفها حسب الموجات التي تزامنت مع فترات زمنية تخص الحركات الاجتماعية في الغرب؛ ولكني اتداول الموضوع كناشطة نسوية ميدانية منهمكة في المعضلات الكبيرة المحيطة بواقع المرأة في العراق، من قبيل التشدد الاسلامي والعشائري، وتملّك جسد المرأة والتحكم الكامل بحياتها، والفقر المفروض على جيلين من النساء اللواتي كبرن خلال الألفية الثالثة، واوضاع ما بعد الاحتلال من عسكرتارية وحروب طائفية، واخيراً أوضاع حكومة تحرص ان تضع المرأة خارج كل معادلاتها وحساباتها تاركة امر حياتها وحمايتها او بالاحرى السيطرة عليها كلياً على عاتق العائلة والعشيرة والقوانين الذكورية للعشيرة.
كنا في منظمة حرية المرأة في نخوض المواجهات السياسية والمنظماتية المتفاعلة داخل الاوساط النسوية في العراق منذ 2003 ولغاية الان، ونرى ان هذه المواجهات قد وصلت الى مستوى نحتاج معه ان نشخّصها ونحلّلها نظرياً لكي نعرف موقعنا الطبقي ونقرر على نمط الفعاليات التي نقوم بها، ولكن كذلك لكي نشخذ اسلحتنا لمواجهة التيارات الاخرى داخل المجاميع النسوية والسياسية.
هناك ثلاثة لقطات من التفاعلات او بالاحرى التواجهات مما يحضرني بالارتباط مع هذا الموضوع. ومعظمها حصل خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول.
اجتماعات مجاميع الجندر للمجتمع الدولي داخل المنطقة الخضراء
تمت دعوة ناشطات حرية المرأة الى العديد من السفارات لغرض مخاطبة النقاط الرئيسية التي تهم المرأة العراقية في هذا المفصل التأريخي وكان الحديث امام ممثلي-ات معظم الدول الغربية المانحة والداعمة للعراق من ضمنها هولندا وبريطانيا والسويد. وكنت انا ضمن الناشطات اللواتي مثلت موقف منظمة حرية المرأة في تلك الجلسات كما وذهبت زميلات اثنتان ممن لديهن قدرة تمثيل قضيتنا.
وغالباً ما بدأت هذه الجلسات بكلمة من احدى ممثلات التجمع النسوي التابع للحزب الشيوعي العراقي ممن يعدّدون مجماميع الوثائق التي هيئوها كاستراتيجيات لكي تتبعها الدولة العراقية في سياساتها حول التعامل مع قضايا المرأة، ومن ثم يتذمرون حول صعوبة اقناع الدولة باتباع ما يخططون له من استراتيجيات. وعادةً ما تكون الناطقات باسم هذه المنظمة محاميات يتعاملن مع قضايا المرأة بتجريد عالٍ وبشكل نخبوي لا يمت بصلة لأوضاع الافقار والذل والاستغلال التي تعاني منها المرأة يوميا على الارض، ولكن تعامل هذه الناشطات يبدو اقرب الى المنطق الحكومي حيث ان مراجع النقاش هي “الأمن الوطني” و”لم شمل الأسرة” ومجالس حكومية اضافية للنظر في شؤون المرأة، اي باختصار شديد ان منطقهن ينطلق من ارضية طبقية حاكمة، ذكورية، وترعى مصالح الدولة البرجوازية وتحاول احتواء قضايا المرأة بما لا يتعارض مع مصالح الدولة.
وتأتي بعدها فقرة كلمة ناشطة-ات منظمة حرية المرأة والتي غالباً ما تبدأ من الواقع الحي الذي تعيشه ملايين النساء، الا وهو واقع صعوبات التعليم والعمل والتشدد الاسلامي والفقر والتبعية المفروضتان على المرأة مما يتسبب لآلاف النساء والفتيات ان يهربن من القسوة العشائرية الذكورية والتي تفرض عليهن عبودية الخدمة المنزلية الى جانب فرض الزواج ممن لا ترضاه الفتاة، او منع ارتباطها بمن ترغب، مما يتسبب بحالات كثيرة الانتشار من العنف المنزلي الشديد مما يدفع الفتيات الى الانتحار او الهرب الى واقع مجهول ـ وعادةً ما تكون هذه الاناث من الطبقة العاملة وليست من اثرياء المنطقة الخضراء، وتكون ممن لم يتسنى لها فرصة التعليم او العمل، اي نساء بروليتاريات معطّلات عن العمل. وهنا تستمر ناشطة حرية المرأة لتسأل الموجودين: مسؤولية من هي حماية وانقاذ هذه الآلاف من النساء من قسوة الطرق وعصابات البغاء والاستغلال الجنسي للنساء، اليست مسؤولية الدولة حماية المواطنة الانثى؟ ام ان الدولة تتنصل من هذا الدور وتترك التعامل مع هذا الموضوع لذكور الاسرة والعشيرة سواء يقتلونها ام يرمونها في الشارع، والدولة تعتبر ذلك امراً شخصيا لا شأن لها به. وهنا اعتدنا في منظمة حرية المرأة ان ننتقد القوانين التي تكرّس تبعية وعبودية المرأة للعشيرة وتسمح للعشيرة بقتلها ان هي خرجت عن قوانينهم التي تتبع “الشرف العشائري”، ونطالب بالغاء الفقرات من القانون التي تسمح بقتلها مع عقوبة مخففة للقتلة. وبعد ان نستعرض اعداد حالات النساء المقتولات، والهاربات ومن دون اية هوية تضفي عليها الشرعية، نستعرض كيف اننا في منظمة حرية المرأة فتحنا دورنا لايواء المرأة لحمايتها في دولة لا توفر الحماية للمرأة، وكيف اننا قمنا بايواء ما يزيد عن 820 امراة خلال خمسة عشرة سنوات من العمل النسوي. وعندها تطلب منظمة حرية المرأة من المجتمع الدولي ان يقف بالضد من سياسات الدولة العراقية التي تدعم الارهاب الذكوري العشائري، وتكرّس عبودية المرأة. وكذلك تطرح منظمة حرية المرأة السؤال امام ممثلات المجتمع الدولي حو ماهية الدور الذي تقوم به مؤسسات الامم المتحدة الخاصة بالجندر ان كانت لا تدعم حق المرأة بالحياة.
وفي اكثر من جلسة، وخاصة في السفارة البريطانية، دار نقاش حاد بين ناشطة حرية المرأة جنات الغزي وبين ممثلات المنظمة التابعة للشيوعي العراقي ممن بدأوا يتهمون دور الايواء التابعة لمنظمة حرية المرأة بانها دور غير شرعية او غير قانونية، مصطفين بذلك مع مسؤولي الدولة من الذكوريين ممن لا يريدون اي ايواء للمرأة العراقية المعنفة وضحية عصابات البغاء. كما واصطفت معهن بالضد من ايواء المراة وحمايتها ضمن دور حرية المرأة مسؤولة مؤسسة الامم المتحدة المكلفة بفتح الدار الحكومية لايواء للمرأة، وهي دار لم تستقبل الا نساء قليلات بسبب الشروط الكثيرة الموضوعة للاستقبال -مستمسكات اربعة، وامر من القاضي وموتفقة الاب او الزوج. واتضح كمّ العداء الموجود لدى هذه النساء للمشروع النسوي لمنظمة حرية المرأة لحماية وتمكين المرأة في دور ايوائنا.
ايهما أولوية الأن: حماية المراة وحفظ كرامتها من الامتهان، ام كتابة الوثائق الاستراتيجيات لتجميل صورة الدولة؟
يظل موقفنا في منظمة حرية المرأة ان نتجنب العمل النخبوي بشكل لصيق مع المؤسسات الحكومية والبرجوازية مما يعلن وبوضوع مواقعه الطبقية البرجوازية، ونظل نصرّ على ان نكون نموذجا مصغّراً من مستقبل يحترم المرأة ويكرّس جهوده لتمكينها، وهو هذا المجتمع الذي تحرص منظمة حرية المرأة على بنائه من دون ان تنتظر الموافقات والـ”شرعية” والموافقات “القانونية” من دولة الاسلاميين المتشددين والعشائر التي ترى نفسها فوق كل قانون. ونحن في منظمة حرية المرأة نلتفت لوضع المرأة البروليتارية والتي فقدت مواقعها في المجتمع بسبب عدم توفر العمل، وبسبب فقدان الحماية الاسرية، وبسبب تحوّل المفاهيم الاجتماعية مما جعلها هدفا للهجمات الذكورية التي حولتها الى مادة للاستعباد والخدمة والمتعة واقصاءها خارج مجتمع عشيرتها ان هي قاومت تحولها الى اداة وسلعة يتم المتاجرة بها. واعلنا في هذه الاجتماعات باننا في حرية المرأة انقذنا ما يزيد عن ثمانمائة امراة وفتاة من القتل والعنف والاتجار وأويناهم داخل دور ايواء منظمة حرية المرأة حيث ان اجتماعاتنا الدورية معهن كانت بمثابة حلقات بث الوعي النسوي الثوري لتحويلهن من “ضحايا” الى ناشطات ثوريات تحارب عنف الذكورية والعسكرتارية، كما وانهن وبحكم تجاربهن الماضية كمواقع اجتماعية دنيا داخل المجتمع تشعر بالظلم الواقع ضد “الاقليات الاخرى” من النساء والمجتمع الايزيدي والمجتمع الاسود في العراق. وتنتهي هذه الجلسات بالتذكير من قبل ناشطة حرية المراة بان وقوف المجتمع الدولي كمتفرجين غير متدخلين تدفع ثمنه اكثر من ألف امراة تقتل سنويا في العراق تحت ما يسمّى بالقتل غسلا للعار تحت مرأى ومسمع من الدولة التي يدعمونها ويمكنوها ويقوّنها.
النقاشات ضمن مؤتمرات الامم المتحدة حول القوانين
تمثلت في اجتماعين تم التنظيم لها من قبل مؤسسة الامم المتحدة لمساعدة المنظمات غير الحكومية يومي 26 و27 حول مسودة قانون الحماية من العنف الاسري وكذلك حول فقرة 409 من قانون العقوبات والتي تسمح بقتل النساء من دون عقوبة تُذكر لقتلة النساء من قبل القضاء. في مناقشة القانون، كان هناك موقفان، الاول من قبل مجموعة الشيوعي العراقي والتي استقتلت من اجل امرار القانون بكل عيوبه بعد عملهم الدؤوب في التفاوض حوله مع لجان البرلمان. والموقف الثاني كان من قبل حرية المرأة بان القانون ينكر وجود العنف ضد المرأة من خلال تسميته والتعاريف الموجودة به ويهدف لَم شمل الاسرة عوضا عن حماية المراة من العنف الذكوري. ومن الناحية العملية، ان القانون يحدد مهمة حماية المرأة او بالاحرى ايواءها بالدولة فقط – مما يتضمن منع الصفة القانونية عن اية دور ايواء خارج اطار الدولة. وكانت الجهة المكلفة بايواء المرأة من قبل الدولة حاضرة في المؤتمرين، وعبروا عن العجز المفروض عليهم بسبب انعدام التمويل او التسهيلات القانونية لعملهم مما يدل على انعدام الارادة السياسية لدى الدولة بتوفير اية حماية للمرأة خارج اطار العائلة. عبرنا في منظمة حرية المرأة عن ضرورة ان يشمل القانون فقرة تسمح للمنظمات النسوية بايواء المرأة ايضا، ووضحنا ان دور الايواء التابعة لنا فيها يمجموع 52 امراة حاليا مع 25 طفل حالياً، بينما الدور الحكومية برمتها فيها امراة واحدة سجينة فقط- لان دورهم ليست اماكن لتمكين المرأة ولكن فقط سجون وبتأثيث مناسب. ولذا كان موقف منظمة حرية المرأة ان هذا القانون لا يزال قاصرا عن الدور المطلوب منه، ويحتاج الى تعديلات قبل عرضه على البرلمان.
اما في النقاش حول فقرة قانون العقوبات التي يسمح بقتل النساء فشبّ نقاش حاد بين محامٍ يلوم الاحزاب الاسلامية على مآسي القتل الجماعي للمراة وينزِه الذكورية العشائرية من الموضوع وبين برلمانية وعضو سابق في مجلس الحكم والتي وضعت اللوم على اطراف عشائرية ونزّهت الاحزاب الاسلامية. قاطعناهم وانهينا نقاشهم بوضع اللوم على الطرفين بالتساوي، اذ ان الاسلامي يشرّع لقتل المرأة والعشائريون ينفذون حكم الاعدام على المرأة باياديهم. اما النقاش السائد بين المنظمات النسوية ومن ضمنها تلك التابعة للشيوعي العراقي فكان متخلف الطابع وتنقصه الانسانية، اذ طلب الجمع الاكبر اعطاء المراة الحق بقتل الرجل فيما لو “تلبس بالجرم داخل دار الزوجية” اسوة بالرجل، وكأن القتل الموجود في المجتمع ليس كافيا، وهم يريدون ان يزيدوا منه. نحن في منظمة حرية المرأة قاطعناهم مرة اخرى وطلبنا إلغاء الفقرة 409 ومنع القتل من ايٍ كان، وخاصةً قتل النساء كما يسمح به هذا القانون ويعطيه حكما مخففا مما لا يتم تنفيذ اي جزء منه في محاكم القضاء.
كانت اطراف من الاعلام الحكومي ومجلس القضاء الاعلى وبرلماني من اللجنة القانونية ووزارة الداخلية وخبيرات من الامم المتحدة كلهم حاضرون-ات في الاجتماعين ويدونون الملاحظات حول المواقف والنقاشات. وعند طلبهم من المؤتمرين بان يشكلوا مجاميع لكي يأخذوا القرارات حول كيفية الدفع باتجاه بشريع او تغيير القوانين، اتضح موقفان من قبل مجموعة منظمة الشيوعي العراقي: أولهما هو ان التعاون مع الجهات الحكومية أولوية على اي عمل نسوي في هذا المضمار، مما يتضمن الرفض لاي تحدٍ او إرادة نسوية تفرض نفسها على الدولة. والموقف الثاني كان برفض اي تقسيم للعمل ما بين المنظمات النسوية وحسب الاختصاصات، بل كان خطابهم بـ”اننا كلنا نعمل على كل شيء في نفس الوقت” مما كانوا يقصدون به ضرورة احتكارهم للعمل النسوي من دون شركاء، بل يجب على الكل ان يكون اتباع لهم بسبب “امتياز” يعطونه لانفسهم بـ”ملكية” وطابو الحركة النسوية. وكانت بعض الشخصيات المحلية للامم المتحدة موافقة لهم بشكل عام في هذا الموقف اذ انهم يتشاركون الرأي في التعاون مع الدولة وبالفهم الذكوري لقضايا المرأة..
الكتابات الاكاديمية واليساروية مما يهدف دراسة الحركة النسوية او يحاول قيادتها
تميزت الكتابات النسوية الاكاديمية في العقدين الاخيرين بانتقاد آلية انخراط الناشطات النسوية ضمن المنظمات غير الحكومية (ان جي او) مدّعية بان انفصال الحراك النسوي عن اليسار وخضوعه لآليات عمل الان جي او NGO هو ما اضرّ بالحركة النسوية وجعلها تنجرف باتجاه اليمين البرجوازي. ولقد نال هذا الطرح الكثير من التطبيل والتزمير من قبل كتابات نسوية يساروية اكاديمية كانت مستاءةً من تنامي ضعف اليسار، وكانت تبحث عن “شماعة” تلقي عليها اللوم في ذلك.
من خلال تجربة منظمة حرية المرأة وحواراتنا منذ 2003 ولغاية الان، نستنتج ما هو مغاير لذلك. نرى ان المنظمات غير الحكومية تظل متمسكة بخطها السياسي سواء كان يمينا ام يسارا، قوميا ام اسلاميا، ذكوريا ام نسويا، ولكنها تتمسك بصفة الإن جي او بسبب حاجتها للصفة القانونية وكذلك للتمويل لكي تقوم بفعالياتها اليومية. وقد تعرفنا على كثير من الشخصيات التي كان عملها يتبع كل الألوان في قوس القزح السياسي في العراق في العقد والنصف الاخيرتين. وان تبريرنا نحن للتراجع الحاصل في عموم الحركة النسوية العراقية وضمن جمع غير قليل من المنظمات النسوية هو تراجع الحزب الشيوعي العراقي عن مواقفه الطبقية وتنازله امام التيارات الاسلامية والعشائرية مما جعل منظمته النسوية تتخاذل بقبولها لذكورية الدولة وهجمتها على المرأة. وذلك مما سحب جزءا غير قليل من المنظمات النسوية المنضوية حولهم بذلك الاتجاه المتخاذل والمتنصل عن الدفاع الجريء عن المرأة.
وضحنا من خلال الجزء الاول من هذا المقال الفرق بين المواقع الطبقية البروليتارية لمنظمة حرية المرأة وتلك المنظمات الاخرى التي اختارت الانتماء البرجوازي وهجر قضايا المرأة البروليتارية المسلوبة من حق تقرير المصير. وتلك انماط اثنتين للعمل النسوي الميداني ضمن المنظمات النسوية التي تشكل برمتها الحركة النسوية في العراق. بقى ان نذكر نمطا ثالثاً من العمل النسوي، الا وهو كتابات اكاديمية تدرس الحركة النسوية كفعاليات ونصوص محاولة وضعها على الخارطة المعرفية والسياسية كالاكاديمية زهراء علي ممن تفحصت العمل الميداني للمنظمات النسوية في العراق وقابلت شخصياتها ولا تزال تعمل على تكملة بناء فهم معرفي لعمل هذه المنظمات دون احكام مسبقة بالضد من عملها، وهو نموذج يساعد على تطوير فهم الخطوط السياسية الموجودة ضمن الحركة النسوية.
وهنالك ايضا كتابات يساروية تتميز بتجريد عالٍ عن الواقع ومن قبل كاتبات تنأى عن ان تتسخ يداها بالنشاط الميداني مع المرأة في الحياة اليومية؛ ولكنها لا تتورع عن التقليل من شأن وموقعية المنظمات المنهمكة بالعمل النسوي بكل ميادينه الخطرة، بل وتلجأ مرةً الى اتهامها بالإن جي أوية NGOization ، ومرة ثانية بكونها طفيلية وتعتاش على طاقات الحزب السياسي، وفي الفترة المؤخرة قامت الكاتبة بتسليط نقدها على المهمة الأخطر ضمن مهام منظمة حرية المرأة، الا وهي مهمة حماية المرأة ضمن دور الايواء ذات المواقع السرية بعيدا عن مرأى العشائر والميليشيات. وتذكر بان حمايتها ضمن هذه الدور هو “…ابعادها عن الحياة الاجتماعية الطبيعية ناهيك عن الانخراط في الحياة السياسية، بحجة حمايتها من عنف الاخرين.” هذا الكلام يجعل ناشطات حرية المرأة يتساءلن عن مدى تفهم او اكتراث الكاتبة للاوضاع الحياتية المُعاشة من قبل المرأة العراقية المجرّدة من العمل والدراسة وقدرة الاختيار لحياتها الشخصية وبالنتيجة الفاقدة للقرار حول كل ما يخص حياتها. هل ان امراة كهذه لها حرية الانخراط في الحياة السياسية ام حرية التمتع بالحياة الاجتماعية الطبيعية؟ وماذا يكون رأي هذه الكاتبة ان كانت احدى قريباتها من الشابات في حاجة ماسة الى الايواء انقاذا من القتل “غسلا للعار”، هل ان الكاتبة تطلب منها ان تنخرط في حياة سياسية واجتماعية طبيعية في الوقت الذي هي مهددة بالقتل؟ ان هذا الموقف للكاتبة والذي ينكر جدوى العمل النسوي القائم على حماية المرأة في حقيقته يمكن تصنيفه كجزء مكمّل لموقف المنظمات النسوية للشيوعي العراقي والتي اختارت الترفّع عن الواقع المأساوي للمرأة والاكتفاء بالتوجيهات النخبوية من قبيل اللوبي القانوني والوعي السياسي واحلام العيش داخل “حياة اجتماعية طبيعية” والاكتفاء بالتركيز الاجوف على اهمية الوعي السياسي.
استنتاجات موجزة
ان العمل النسوي الثوري لا يمكن ان يكون منشأه ذهني مثالي لا علاقة له بحركة المجتمع المتغيرة ابدا ودوماً؛ كما وان هذا العمل النسوي ليس مجرد ترديد لشعارات جوفاء او توجيهات “ايديولوجية” لا تقارن نفسها بظروف الواقع المُعاش في العراق؛ بل هو مراقبة يومية لظروف الميدان النسوي، وفصل الصفوف او الانتماء الطبقي عن البرجوازية والحرص من الانجراف في النخبوية الاقتصادية السائدة ضمن المنظمات النسوية، وبالتأكيد لا يمكن ان يكمن الجواب في حلول ايديولوجية جاهزة ومسبقة ووصفات تصلح لكل مكان وزمان. وقد يخطر ببال القارئ-ـة هنا سؤال يجب التعامل معه: لماذا تدخلون المنطقة الخضراء ولماذا تتعاملون مع برجوازية الدول الاخرى؟ وما هو الثوري والشيوعي في ذلك؟ وما هي نظرتكم وتوجهكم في زج المرأة ضمن حركة اجتماعية ثورية. وما هو منبركم النسوي الذين يقوم بتنظيم نضالاتكم؟ كل هذه اسئلة نضعها امام اعيننا في نضالنا اليومي، خلال التعامل مع الاسلحة الحكومية الموجهة ضدنا من قبل مؤسسات الدولة، وخلال تعاملنا مع النساء والفتيات ممن رفضن قسوة الواقع المحيط بهن وقررن التمرّد الفردي والبحث عن واقع افضل. ان التحول الاجتماعي الثوري لهذه النساء والفتيات لا ينفصل عن التحول الاجتماعي الثوري للمجتمع المحيط بنا؛ وبقي علينا ان نجد الحلول يوما بيوم وضمن منظار جدلي يتفاعل مع كل الظروف المحيطة بنا ولا يترفع عنها ترفع الايديولوجيين البعيدين عن الحدث والنشاط النسوي.
11-12-2018